فصل: تفسير الآيات (11- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآية رقم (3):

{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}
{الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} إذ الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح والمسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة للألفة والتضام، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق. وكان حق المقابلة أن يقال والزانية لا تنكح إلا من هو زان أو مشرك. لكن المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهن، لأن الآية نزلت في ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية ولذلك قدم الزاني. {وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} لأنه تشبه بالفساق وتعرض للتهمة وتسبب لسوء القالة والطعن في النسب وغير ذلك من المفاسد، ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة. وقيل النفي بمعنى النهي، وقد قرئ به والحرمة على ظاهرها والحكم مخصوص بالسبب الذي ورد فيه، أو منسوخ بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} فإنه يتناول المسافحات، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» وقيل المراد بالنكاح الوطء فيؤول إلى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية، والزانية أن يزني بها إلا زان وهو فاسد.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)}
{والذين يَرْمُونَ المحصنات} يقذفونهن بالزنا لوصف المقذوفات بالإِحصان، وذكرهن عقيب الزواني واعتبار أربعة شهداء بقوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} والقذف بغيره مثل يا فاسق ويا شارب الخمر يوجب التعزير كقذف غير المحصن، والإِحصان هاهنا بالحرية والبلوغ والعقل والإِسلام والعفة عن الزنا ولا فرق فيه بين الذكر والأنثى، وتخصيص {المحصنات} لخصوص الواقعة أو لأن قذف النساء أغلب وأشنع، ولا يشترط اجتماع الشهود عند الآداء ولا تعتبر شهادة زوج المقذوفة خلافاً لأبي حنيفة، وليكن ضربه أخف من ضرب الزنا لضعف سببه واحتماله ولذلك نقص عدده. {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً} أي شهادة كانت لأنه مفتر، وقيل شهادتهم في القذف ولا يتوقف ذلك على استيفاء الجلد خلافاً لأبي حنيفة فإن الأمر بالجلد والنهي عن القبول سيان في وقوعهما جواباً للشرط لا ترتيب بينهما فيترتبان عليه دفعة، كيف وحاله قبل الجلد أسوأ مما بعده. {أَبَدًا} ما لم يتب، وعند أبي حنيفة إلى آخر عمره. {وأولئك هُمُ الفاسقون} المحكوم بفسقهم.

.تفسير الآيات (5- 10):

{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
{إِلاَّ الذين تَابُواْ} عن القذف. {مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم بالتدارك، ومنه الاستسلام للحد أو الاستحلال من المقذوف، والاستثناء راجع إلى أصل الحكم وهو اقتضاء الشرط لهذه الأمور ولا يلزمه سقوط الحد به كما قيل، لأن من تمام التوبة الاستسلام له أو الاستحلال ومحل المستثنى النصب على الاستثناء، وقيل إلى النهي ومحله الجر على البدل من هم في لهم، وقيل إلى الأخيرة ومحله النصب لأنه من موجب وقيل منقطع متصل بما بعده. {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} علة للاستثناء.
{والذين يَرْمُونَ أزواجهم وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} نزلت في هلال بن أمية رأى رجلاً على فراشه، وأنفسهم بدل من شهداء أو صفة لهم على أن إلا بمعنى غير. {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات} فالواجب شهادة أحدهم أو فعليهم شهادة أحدهم، و{أَرْبَعُ} نصب على المصدر وقد رفعه حمزة والكسائي وحفص على أنه خبر {شهادة}. {بالله} متعلق بشهادات لأنها أقرب وقيل بشهادة لتقدمها. {إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي فيما رماها به من الزنا، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنه باللام تأكيداً.
{والخامسة} والشهادة الخامسة. {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} في الرمي هذا لعان الرجل وحكمه سقوط حد القذف عنه، وحصول الفرقة بينهما بنفسه فرقة فسخ عندنا لقوله عليه الصلاة والسلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة ونفي الولد أن تعرض له فيه وثبوت حد الزنا على المرأة لقوله.
{وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} أي الحد. {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين} فيما رماني به.
{والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصادقين} في ذلك ورفع الخامسة بالإِبتداء وما بعدها الخبر أو بالعطف على أن تشهد، ونصبها حفص عطفاً على {أَرْبَعُ}. وقرأ نافع ويعقوب {أَن لَّعْنَةُ الله} و{أَنَّ غَضَبَ الله} بتخفيف النون فيهما وكسر الضاد وفتح الباء من {غَضَبَ} ورفع الهاء من اسم {الله}، والباقون بتشديد النون فيهما ونصب التاء وفتح الضاد وجر الهاء.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} متروك الجواب للتعظيم أي لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة.

.تفسير الآيات (11- 25):

{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)}
{إِنَّ الذين جَاءوا بالإفك} بأبلغ ما يكون من الكذب من الإِفك، وهو الصرف لأنه قول مأفوك عن وجهه، والمراد ما أفك به على عائشة رضي الله تعالى عنها. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام استصحبها في بعض الغزوات فأذن ليلة في القفول بالرحيل، فمشت لقضاء حاجة ثم عادت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت لتلتمسه فظن الذي كان يرحلها أنها دخلت الهودج فرحله على مطيتها وسار، فلما عادت إلى منزلها لم تجد ثمة أحداً فجلست كي يرجع إليها منشد، وكان صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه قد عرس وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتى أتيا الجيش فاتهمت به. {عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} جماعة منكم وهي من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة، يريد عبد الله بن أبي، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وهي خبر إن وقوله: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} مستأنف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والهاء للإِفك. {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم، وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيراً. {لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم} لكل جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصاً به. {والذي تولى كِبْرَهُ} معظمه وقرأ يعقوب بالضم وهو لغة فيه. {مِنْهُمْ} من الخائضين وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به {والذي} بمعنى الذين. {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبي مطروداً مشهوراً بالنفاق، وحسان أعمى أشل اليدين، ومسطح مكفوف البصر.
{لَّوْلاَ} هلا. {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات كقوله تعالى: {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} وإنما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإِيمان يقتضي ظن الخير بالمؤمنين والكف عن الطعن فيهم وذب الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم. وإنما جاز الفصل بين {لَوْلاَ} وفعله بالظرف لأنه منزل منزلته من حيث إنه لا ينفك عنه وذلك يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، وذلك لأن ذكر الظرف أهم فإن التحضيض على أن لا يخلوا بأوله. {وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} كما يقول المستيقن المطلع على الحال.
{لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} من جملة المقول تقريراً لكونه كذباً فإن ما لا حجة عليه كذب عند الله أي في حكمه، ولذلك رتب الحد عليه.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والأخرة} لولا هذه لامتناع الشيء لوجود غيره، والمعنى لولا فضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي من جملتها الإِمهال للتوبة {وَرَحْمَتُهُ} في الآخرة بالعفو والمغفرة المقدران لكم. {لَمَسَّكُمْ} عاجلاً. {فِيمَا أَفَضْتُمْ} خضتم. {فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يستحقر دونه اللوم والجلد.
{إِذْ} ظرف {لَمَسَّكُمْ} أو {أَفَضْتُمْ}. {تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه يقال تلقى القول كتلقفه وتلقنه، قرئ: {تتلقونه} على الأصل و{تَلَقَّوْنَهُ} من لقيه إذا لقفه و{تَلَقَّوْنَهُ} بكسر حرف المضارعة و{تَلَقَّوْنَهُ} من إلقائه بعضهم على بعض، و{تَلَقَّوْنَهُ} و{تألقونه} من الألق والألق وهو الكذب، و{تثقفونه} من ثقفته إذا طلبته فوجدته و{تقفونه} أي تتبعونه. {وَتَقُولُونَ بأفواهكم} أي وتقولون كلاماً مختصاً بالأفواه بلا مساعدة من القلوب. {مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} لأنه ليس تعبيراً عن علم به في قلوبكم كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً} سهلاً لا تبعة له. {وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ} في الوزر واستجرار العذاب، فهذه ثلاثة آثام مترتبة علق بها مس العذاب العظيم، تلقي الإِفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك وهو عند الله عظيم.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا} ما ينبغي وما يصح لنا. {أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} يجوز أن تكون الإِشارة إلى القول المخصوص وأن تكون إلى نوعه، فإن قذف آحاد الناس محرم شرعاً فضلاً عن تعرض الصديقة ابنة الصديق حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. {سبحانك} تعجب من ذلك الإِفك أو ممن يقول ذلك، وأصله أن يذكر عند كل متعجب تنزيهاً لله تعالى من أن يصعب عليه مثله ثم كثر فاستعمل لكل متعجب، أو تنزيه لله تعالى من أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فيكون تقريراً لما قبله وتمهيداً لقوله: {هذا بهتان عَظِيمٌ} لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها.
{يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} كراهة أن تعودوا أو في أن تعودوا. {أَبَدًا} ما دمتم أحياء مكلفين. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإِن الإِيمان يمنع عنه وفيه تهييج وتقريع.
{وَيُبَيّنُ لَكُمُ الأيات} الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب كي تتعظوا وتتأدبوا. {والله عَلِيمٌ} بالأحوال كلها. {حَكِيمٌ} في تدابره ولا يجوز الكشخنة على نبيه ولا يقرره عليها.
{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} يريدون. {أَن تَشِيعَ} أن تنتشر. {الفاحشة فِي الذين ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والأخرة} بالحد والسعير إلى غير ذلك. {والله يَعْلَمُ} ما في الضمائر. {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فعاقبوا في الدنيا على ما دل عليه الظاهر والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإِشاعة.
{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للدلالة على عظم الجريمة ولذا عطف قوله: {وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} على حصول فضله ورحمته عليهم وحذف الجواب وهو مستغنى عنه بذكره مرة.
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} بإشاعة الفاحشة، وقرئ بفتح الطاء وقرأ نافع والبزي وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة بسكونها. {وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} بيان لعلة النهي عن اتباعه، و{الفحشاء} ما أفرط قبحه، و{المنكر} ما أنكره الشرع. {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتوفيق التوبة الماحية للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها {مَا زَكَى} ما طهر من دنسها. {مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً} آخر الدهر. {ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَاء} بحمله على التوبة وقبولها. {والله سَمِيعٌ} لمقالهم. {عَلِيمٌ} بنياتهم.
{وَلاَ يَأْتَلِ} ولا يحلف افتعال من الألية، أو ولا يقصر من الألو، ويؤيد الأول أنه قرئ ولا {يتأل}. وأنه نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين. {أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} في الدين. {والسعة} في المال. وفيه دليل على فضل أبي بكر وشرفه رضي الله تعالى عنه. {أَن يُؤْتُواْ} على أن لا {يُؤْتُواْ}، أو في {أَن يُؤْتُواْ}. وقرئ بالتاء على الالتفات. {أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله} صفات لموصوف واحد، أي ناساً جامعين لها لأن الكلام فيمن كان كذلك، أو لموصوفات أقيمت مقامها فيكون أبلغ في تعليل المقصود. {وَلْيَعْفُواْ} عما فرط منهم. {وَلْيَصْفَحُواْ} بالإِغماض عنه. {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه: «روي أنه عليه الصلاة والسلام قرأها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: بلى أحب ورجع إلى مسطح نفقته». {إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} العفائف. {الغافلات} عما قذفن به. {المؤمنات} بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعناً في الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين كابن أبي. {لُعِنُواْ فِي الدنيا والأخرة} لما طعنوا فيهن. {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} لعظم ذنوبهم، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا توبة له، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} ظرف لما في لهم من معنى الاستقرار لا للعذاب لأنه موصوف، وقرأ حمزة والكسائي بالياء للتقدم والفصل. {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يعترفون بها بإنطاق الله تعالى إياها بغير اختيارهم، أو بظهوره آثاره عليها وفي ذلك مزيد تهويل للعذاب.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} جزاءهم المستحق. {وَيَعْلَمُونَ} لمعاينتهم الأمر. {أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} الثابت بذاته الظاهر ألوهيته لا يشاركه في ذلك غيره ولا يقدر على الثواب والعقاب سواه، أو ذو الحق البين أي العادل الظاهر عدله ومن كان هذا شأنه ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.